فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}.
ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره؛ لأن الغيرة في الله ملكته؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة.
وقد قيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه.
وقد مضى هذا في الأعراف مستوفٍ.
والله عز وجل أعلم بما أراد نبيه عليه السلام.
{إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم، فلو خرجت لاتبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم؛ وربما أدّى الأمر إلى سفك الدماء؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك.
وهذا جواب هارون لموسى عليه السلام عن قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وفي الأعراف {إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعداء} [الأعراف: 150] لأنك أمرتني أن أكون معهم.
وقد تقدم.
ومعنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} لم تعمل بوصيتي في حفظهم لأنك أمرتني أن أكون معهم؛ قاله مقاتل.
وقال أبو عبيدة: لم تنتظر عهدي وقدومي.
فتركه موسى ثم أقبل على السامريّ ف {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامريّ عظيمًا في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرّت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم {قَالُواْ يا موسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فاغتنمها السامريّ وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل.
ف {قَالَ} السامريّ مجيبًا لموسى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} يعني: رأيت ما لم يروا؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم؛ فلما سألوك أن تجعل لهم إلها زَيَّنَتْ لي نفسي ذلك.
وقال عليّ رضي الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام إلى السماء، أبصره السامريّ من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس.
وقيل قال السامري: رأيت جبريل على الفرس وهي تلقي خطوها مدّ البصر، فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم.
وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رَمَكة وَدِيقٍ، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر.
ويقال: إن أم السامريّ جعلته حين وضعته في غارٍ خوفًا من أن يقتله فرعون؛ فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كفَّ السامريّ في فم السامريّ، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذٍ.
وقد تقدم هذا المعنى في الأعراف.
ويقال: إن السامريّ سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل، فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامريّ بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف {بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا} بالتاء على الخطاب.
الباقون بالياء على الخبر.
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة {فَقَبصْتُ قبصَةً} بصاد غير معجمة.
وروي عن الحسن ضم القاف من {قبصة} والصاد غير معجمة.
الباقون {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} بالضاد المعجمة.
والفرق بينهما أن القبض بجميع الكفّ، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخَضْم والقَضْم، والقُبْضة بضم القاف القدر المقبوض؛ ذكره المهدوي.
ولم يذكر الجوهري {قُبْصة} بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر القُبْضة بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء؛ يقال: أعطاه قُبْضة من سَويق أو تمر أي كفًا منه، وربما جاء بالفتح.
قال: والقِبضُ بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس؛ قال الكميت:
لكم مسجدا اللَّهِ المُزوران والحَصَى ** لكم قبْصُهُ من بين أَثْرَي وأَقْتَرَى

{فَنَبَذْتُهَا} أي طرحتها في العجل.
{وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي زينته؛ قاله الأخفش.
وقال ابن زيد: حدثتني نفسي.
والمعنى متقارب.
قوله تعالى: {قَالَ فاذهب} أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي لا أُمسّ ولا أَمسّ طول الحياة.
فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألاّ يخالطوه ولا يَقربوه ولا يكلّموه عقوبة له والله أعلم.
قال الشاعر:
تَميمٌ كرهط السّامريّ وقوله ** ألاَ لا يريدُ السامريّ مِساسَا

قال الحسن: جعل الله عقوبة السامريّ ألا يماسّ الناس ولا يماسّوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة؛ وكأن الله عز وجل شدّد عليه المحنة، بأن جعله لا يماسّ أحدًا ولا يمكّن من أن يمسّه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا.
ويقال: ابتلي بالوسواس؛ وأصل الوسواس من ذلك الوقت.
وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك لا مساس وإن مسّ واحد من غيرهم أحدا منهم حُمَّ كلاهما في الوقت.
ويقال: إن موسى هَمَّ بقتل السامريّ، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخيّ.
ويقال لما قال له موسى: {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدًا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه؛ كما قال الشاعر:
حَمَّالُ راياتٍ بها قَنَاعِسَا ** حتى تقولَ الأزدُ لا مسابسَا

مسألة:
هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خُلّفوا.
ومن التجأ إلى الحرم وعليه قَتلٌ لا يُقتَل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج.
ومن هذا القبيل التغريب في حدّ الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته.
والحمد لله وحده.
وقال هارون القارئ: ولغة العرب لا مَساسِ بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه؛ فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضربِ الرجل.
وقال أبو إسحاق: لا مساسِ نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث؛ تقول: فعلتِ يا امرأة.
قال النحاس: وسمعت عليّ بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء؛ فمساسِ ودراكِ اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين؛ كما تقول: اضرب الرّجلَ.
ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى آمرة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقوله أحد.
وقال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب لا مَساسِ مثال قَطامِ فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المسّ.
وقرأ أبو حيوة {لا مَسَاسِ}.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ} يعني يوم القيامة.
والموعد مصدر؛ أي إن لك وعدًا لعذابك.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تُخْلِفَهُ} بكسر اللام وله معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلّفًا؛ كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودًا.
والثاني: على التهديد أي لابد لك من أن تصير إليه.
الباقون بفتح اللام؛ بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه.
قوله تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ} أي دمت وأقمت عليه.
{عَاكِفًا} أي ملازمًا؛ وأصله ظللت؛ قال:
خَلاَ أنّ العِتاقَ من المطايا ** أَحَسْنَ به فهنّ إليه شُوسُ

أي أَحْسَسْن.
وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل.
وفي قراءة ابن مسعود {ظِلْتَ} بكسر الظاء.
يقال: ظَللت أفعل كذا إذا فعلته نهارًا وظَلْت وظِلْت؛ فمن قال: ظَلْت حذف اللام الأولى تخفيفًا؛ ومن قال: ظِلْت ألقى حركة اللام على الظاء.
و{لَّنُحَرِّقَنَّهُ} قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حَّرق يحرِّق.
وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء، من أحرقه يُحرقه.
وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي {لَنَحْرُقَنَّهُ} بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقًا بَردَته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حَرَق نابَه يَحرِقه ويَحرُقه أي سحقه حتى سُمع له صَرِيف؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنّه بالمبارد، ويقال للمِبرد المِحْرَق.
والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار.
وقد يمكن جمع ذلك فيه؛ قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم بَرَد عظامه بالمِبرد وحَرَقه.
وفي حرف ابن مسعود {لنذبحنه ثم لنحرقنه} واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادًا فيمكن تذريته في اليمّ؛ فأما الذهب فلا يصير رمادًا.
وقيل: عرف موسى ما صير به الذهب رمادًا، وكان ذلك من آياته.
ومعنى {لَنَنسِفَنَّهُ} لنطيّرنه.
وقرأ أبو رجاء {لَنَنْسُفَنَّهُ} بضم السين لغتان، والنّسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمِنْسف ما يُنسف به الطعام؛ وهو شيء متصوِّب الصدر أعلاه مرتفع، والنُّسَافة ما يسقط منه؛ يقال: اعزل النُّسَافة وكُلْ الخالص.
ويقال: أتانا فلان كأنّ لحيته مِنْسف؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم.
والمِنْسفة آلةُ يقلع بها البناء.
ونسفتُ البناء نسفًا قلعته، ونَسفَ البعيرُ الكَلأَ يَنْسِفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته؛ عن أبي زيد. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و{قالوا لن نبرح} على عبادته مقيمين ملازمين له، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن {لن} لا تقتضي التأبيد خلافًا للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملًا فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية.
وقبل قوله: {قال يا هارون} كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل {قال يا هارون} وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يومًا وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و{لا} زائدة كهي في قوله: {ما منعك أن لا تسجد} وقال عليّ بن عيسى دخلت {لا} هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين {أفعصيت أمري} يريد قوله: {اخلفني} الآية.
وقال الزمخشري: ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن وما لك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدًا، أو ما لك لم تلحقني.
وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله: {إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل} إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا {لن نبرح عليه عاكفين} ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقًا بينهم وإنما لاينت جهدي.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز.
وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه، ولما رأى قومه عبدوا عجلًا من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضًا على شعر رأسه، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها.
وتقدّم الكلام على {ابن أم} قراءة وإعرابًا وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر ولم تُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.
ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف.
وقال ابن عطية {ما خطبك} كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارًا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال: ما نحسك وما شؤمك، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى.
وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال: {فما خطبكم أيها المرسلون} وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهارًا ولا شيئًا مما ذكر.
وقال الزمخشري: خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئًا ما خطبك، فمعناه ما طلبك له انتهى.
ومنه خطبة النكاح وهو طلبه.
وقيل: هو مشتق من الخطاب كأنه قال له: ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت {قال بصرت بما لم يبصروا به}.